المدخل الروحاني في الخدمة الاجتماعية: الأسس والتطبيقات
يعد المدخل الروحاني في الخدمة الاجتماعية من المداخل الحديثة التي تستند إلى البعد الروحي للعميل، وهو يعكس الاهتمام المتزايد بالجوانب غير المادية للخبرة الإنسانية. ويركز هذا المدخل على تمكين الأفراد من الاستفادة من الموارد الروحية في مواجهة المشكلات النفسية والاجتماعية، بما يتوافق مع أهداف الخدمة الاجتماعية في تحقيق السلامة النفسية والعقلية.
1. الأصول التاريخية للمدخل الروحاني
بدأ الاهتمام بالبعد الروحاني في منتصف القرن العشرين، عندما شعر العديد من المتخصصين في الخدمة الاجتماعية بالخسارة الناتجة عن ابتعاد المهنة عن أصولها الدينية. وقد أدى ذلك إلى دعوات لإعادة النظر في الأسس الدينية والخلفيات الروحية للممارسة المهنية، مستفيدين من تأثير الديانات المختلفة في الولايات المتحدة الأمريكية، خصوصاً اليهودية والمسيحية، مما أسفر عن ظهور نماذج ممارسة مهنية متأثرة بالدين، مثل الخدمة الاجتماعية اليهودية والخدمة الاجتماعية المسيحية (Gelmans & Schuall, 1997؛ علي، 2004).
وتتضمن العلاقة التاريخية بين الروحانية والخدمة الاجتماعية في الولايات المتحدة ثلاث مراحل رئيسية:
1. المرحلة الأولى (نشأة المستعمرات حتى أوائل القرن العشرين):كانت الخدمة الاجتماعية مرتبطة بالمؤسسات الدينية، تقدم الخدمات عادة لأبناء الدين أو المذهب ذاته، مع محاولة اجتذاب الآخرين وتحويلهم.
2. المرحلة الثانية (العشرينات – السبعينات):
تزايد دور الدولة في تقديم الخدمات بشكل شامل وغير مرتبط بالدين، مع توجه التعليم في الخدمة الاجتماعية نحو التوجهات الفرويدية والسلوكية والماركسية.
3.المرحلة الثالثة (أواخر السبعينات وما بعدها):
عادت الدعوة للاهتمام بالجانب الروحاني للعميل، مع التركيز على التنوع الديني والاعتراف بدور الروحانية في الخبرة الإنسانية، وهو ما انعكس في زيادة البحوث والمقالات العلمية في التسعينات (إبراهيم، 2000).
2. مفهوم الروحانية
تعرف الروحانية بأنها "تكريس الإنسان للجزء غير المادي من حياته الإنسانية" (Robert, 1997). وهي تمثل أداة مهمة للأخصائي الاجتماعي، حيث يستخدم العديد من العملاء البعد الروحي للتغلب على المشكلات النفسية والاجتماعية.
ويرى عبد العزيز فهمي النوحى أن الروحانية مشتقة من الروح، وتشمل:
- إدراك معنى ما هو مقدس والتقدير العام للمعاني الدينية.
- الشعور بمغزى الوجود وهدفه وتأثير ذلك على الفرد.
- إدراك ما هو مطلق وغيبي بجانب الواقع المادي.
- الإيمان بالخير والسعي لانتشاره على الفرد والمجتمع والبيئة المحيطة (عبد العزيز، 2002).
ويمكن للروحانية أن تنمو وتزكى، كما يمكن أن تتدهور، وفقاً لتجربة الفرد أو نسق العميل.
3. المكونات والأبعاد الفرعية للروحانية
تشمل الروحانية ثلاثة أبعاد أساسية (James W & Others, 1999):
- البعد المعرفي: يشمل المعتقدات والقيم الدينية والمعارف المتعلقة بتجارب العميل الشخصية.
- البعد النفسي أو الوجداني: يضم الخبرات الداخلية والمشاعر المتصلة بالروحانية والتفاعل مع الآخرين.
- البعد السلوكي: يتضمن الأنشطة الدينية أو الروحية، سواء كانت فردية أو جماعية.
يلاحظ في الواقع العملي تداخل هذه الأبعاد، مما يشكل الهوية الروحانية المميزة للفرد.
4. بناء الشخصية من منظور روحاني
تتكون الشخصية الإنسانية من عنصرين أساسيين: الجسد والروح.
- الجسد: يحتاج إلى الغذاء والملبس والنوم والحماية.
- الروح: تحتاج إلى التقرب من الله وتحقيق الهدف من الوجود، وهو العبادة وتحقيق الاستخلاف في الأرض (علي، 2002).
5. النظريات الداعمة للمدخل الروحاني
يعتمد المدخل الروحاني على نظريتين أساسيتين:
1. نظرية تجاوز الذات (Transpersonal Psychology):قدمها إبراهيم ماسلو (1969)، وتركز على القدرات الروحية للأفراد لتحقيق الأهداف العليا والتسامي الذاتي، وتعتبر مهمة للمجتمعات التي تعاني من تدهور أخلاقي وقيمي.
تفسر العمليات الروحية والابتكارية ضمن سياق الأنساق الاجتماعية، حيث يتمتع كل نسق بدرجة من الاستقلالية والتداخل مع أنساق أخرى، مما يسمح بفهم ديناميكيات الفرد ضمن محيطه الاجتماعي (Robbins, 1998).
6. أهداف التدخل المهني في المدخل الروحاني
تتمثل أهداف التدخل وفق هذا المدخل في:
- مساعدة العميل على تعزيز علاقته بربه وتنمية ذاته.
- سد القصور في إشباع الحاجات غير المشبعة.
- رفع مستوى الأداء الاجتماعي في مختلف الأدوار المرتبطة بالمشكلة.
- إصلاح الخلل في العلاقات الاجتماعية وتأثيره على المشكلة (علي، 2002).
7. الأدوات العلاجية في المدخل الروحاني
يشمل المدخل الروحاني مجموعة من الأدوات العلاجية:
- أدوات عامة: الصلاة، التأمل، التوبة، الصبر، العلاج بالعبادات، والإرشاد الأخلاقي.
- أدوات قطاعية: أساليب مخصصة حسب نوع العميل أو المجال.
- أدوات مفتوحة: الاستعانة بأساليب علاجية من نماذج أخرى لتعزيز العملية العلاجية (إبراهيم، 2000؛ علي، 2002).
تشمل أدوات أخرى مثل: التأكيدات، الالتزامات، التحكم في الضغوط، ودعم الهوية الروحانية للعميل.
8. تطبيق المدخل الروحاني: دراسة حالة
تم تطبيق المدخل الروحاني على حالة مريض بالفشل الكلوي رفض العلاج، وأوضح الأخصائي الاجتماعي أن أسباب رفضه ترتبط بالشعور بالعجز وفقدان السيطرة، والخوف من رؤية أسرته له في حالة ضعف. يمكن للمدخل الروحاني أن يكون مفيداً في هذه الحالة من خلال:
- تعزيز الأمل الداخلي والتسامح مع الواقع.
- استخدام التأمل والصلاة للتخفيف من القلق النفسي.
- إعادة بناء الهوية الروحانية للعميل وربطها بالمعنى الشخصي للوجود.
الخلاصة
يمثل المدخل الروحاني إطاراً متكاملاً يجمع بين البعد المعرفي والنفسي والسلوكي للعميل، ويعتمد على أسس تاريخية ونظرية متينة. إنه يتيح للأخصائي الاجتماعي أدوات عملية لمساعدة العملاء على تحقيق التوازن النفسي والروحي والاجتماعي، مع مراعاة التنوع الديني والثقافي في المجتمع.